Tuesday, May 5, 2009

الوديان السبعة - رحلة الروح من عالم الوجود إلى عوالم القرب لله المعبود

 من آثار حضرة بهاء الله التي نزلت بعد رجوعه من السليمانية كتاب الوديان السبعة؛ ويُعدّ هذا الكتاب تحفة من الآثار العرفانية الرائعة وقد نزل رداً على أسئلة الشيخ الصوفي محيي الدين قاضي مدينة خانقين.  ورغم أن الشيخ لم يكن من اتباع حضرة الباب كان من المعجبين بحضرة بهاء الله وكتب إليه رسالة ضمّنها أفكارا وقضايا رمزية باطنية. يدور موضوع الوديان السبعة حول رحلة الروح من عالم الوجود إلى عوالم القرب لله المعبود.  والمراحل السبعة لهذه الرحلة معروفة عند المتصوفين، وَصَفَها في وقت مبكر من تاريخهم أحد أقطابهم البارزين وهو الشيخ فريد الدين العطّار.  إلا أن حضرة بهاء الله هو الذي أسهب في شرح هذه المراحل السبعة فكشف عمق معانيها وأسرار مغازيها.

 أول هذه المراحل (أو الوديان) السبعة وادي الطلب وفيه وصف لطريق الباحث الجاد في سبيله إلى مبتغاه وهو عرفان المظهر الإلهي في عصره، ففي البدء وقبل كل شئ عليه أن يُطهّر قلبه منبع الكنوز السماوية من كل وشم ويُعْرض عن اقتفاء "آثار الآباء والأجداد" ويسد أبواب الصداقة والعداوة مع ملل الأرض، ويترك وراءه ما شاهد وسمع وأدرك.  زاده في رحلته: الغيرة والحماس والصبر.

 وثانيهما وادي العشق والسالك فيه كالفراش الذي وجد لهباً فتراه يتحرق شوقاً للوصول إليه فيدور حوله مقترباً شيئاً فشيئاً إلى أن يحترق أخيرا بشعلة الفداء.  هذه مرحلة يمس شغاف القلب فيها بهاء مظهر الله الذي بحث عنه فوجده، وهنا لا يفهم السالك أسبابا أو براهين لان قلبه انجذب وهوى في عشق محبوبه، وما سيرة كل دين إلا وكُتبت حقا بمداد العشق، ولنأخذ مثالاً على ذلك أوائل الظهور الإلهي لحضرة بهاء الله فمن بين الألوف الذين اتصلوا بالمظهر الإلهي وانجذبوا إليه قليل منهم كان يعرف شيئا عن تاريخ الأمر وتعاليمه وبراهينه وأحكامه، ومع ذلك هاموا عشقا بحضرة الباب وحضرة بهاء الله وثَـمِلوا بخمر الحيوان من فيض المنان واصبحوا على استعداد للتضحية بأرواحهم عند الضرورة، وبلغ بهم أن طلب من فاز بالحضور المبارك قبول استشهادهم في سبيله.  وبلغوا درجة من الانجذاب لم يقبلوا بعدها فكرة الابتعاد عنه...

 أما وادي المعرفة فهو ثالث المراحل السبعة تلك، والمعرفة هنا لا تعتمد أساسا على العلم الدنيوي، فمعرفة الله تشرق على الإنسان من أفق قلبه، فافتخار الإنسان بعلمه وإنجازاته حجاب له عن نور المعرفة الحقّة في معظم الأحيان.  إن روح السالك في هذا الوادي تدرك الحقيقة وتصل إلى اليقين "فتتنور بصريـَّـته وينشغل بمناجاة حبيبه ويكتسب رؤية جديدة ويبدأ في فهم أسرار الظهور الإلهي وخلق الوجود، فلا قنوط  مع المحن والآلام بل يقابلها بالرضا والتسليم، لأنه يرى الأول مثل الآخر ويكتشف أن في البلايا والمحن رحمة الله وبركته ويرى الحكمة في كل شئ.  وفي هذا المقام يرضى بالقضاء ويرى الحرب كأنها سلام ويشاهد في الموت اسرار البقاء ويجد من البحر قطرة وفي القطرة أسرار البحر". وأما وادي التوحيد فيرتقي فيه السالك من عالم التحديد إلى عالم التجريد، فلا يرى عالم الخلق بقصور عينه الذاتية بل يرى بعين الله مجرداً عن الغرض ويكتشف أن الله متجلٍ على المخلوقات ببعض صفاته كل حسب استعداده، ويختلف مقدار التجلي هذا باختلاف عوالم الوجود.  فإذا تحرر السالك من قفص النفس والهوى وتخلص من قيود التحديد يدخل عالم الكون الفسيح كمن يُـحلِّق في الفضاء الخارجي وينظر نحو الأرض برؤية شاملة فتتسع رؤيته ولا ينظر إلى نفسه أو يتعلق بهذا العالم، "بل يرى الله في كل شئ وينظر إلى الأشياء بنظر التوحيد ويشاهد إشراق تجلي الشمس الإلهية من مشرق الهوية على الوجود إشراقاً واحداً وأنوار التوحيد موجودة ظاهرة على جميع الموجودات".  فلا مكان للذات في هذا الوادي وهنا "يدخل السالك في خلوة المعشوق ويصبح محرم سرادق المحبوب.. ولا يرى في نفسه وصفاً ولا اسماً ولا رسماً بل يرى وصفه في وصف الحق واسم الحق يراه في اسمه".  وبوصوله إلى ذاك المقام الرفيع من الانقطاع عن الدنيا يجد السالك نفسه مستغنياً عن كل الموجودات ويدخل وادي الاستغناء ومع انه قد يكون فقيرا في الظاهر ففي الباطن وُهِب الغنى والقُدرة من عالم الروح.  ويتفضل حضرة بهاء الله أن السالك في وادي الاستغناء "يحرق حجبات الفقر وينتقل من الحزن إلى السرور ومن الغَمّ إلى الفرح ويتبدل انقباضه بالانبساط".  تُـبْرِز حياة حضرة عبد البهاء المثل الأعلى لتعاليم حضرة بهاء الله، مثلاً وضّاءً لمعنى السعادة الحقيقية.  فمنذ التاسعة من عمره كان شريك والده في البلايا والمصائب حيث أمضي أربعين سنة من حياته في عكاء سجين أعتى حاكمَيْن مستبدَيْن من الأتراك العثمانيين، ومع ذلك بقي في حلكة تلك السنوات المظلمة اكثر مرافقي والده بِشْراً وبشاشة يُغدِق محبته على كل من يلتقي به.  وبعد بضع سنوات من إطلاق سراحه تفضل بالبيان التالي: "الحرية ليست بالمكان بل حالة نفسية، كنت سعيداً في السجن لأني قضيت أيامي بالخدمة.  فالسجن لي كان حرية والمصائب راحة والموت حياة والذِلّة عزّة ولذلك غمرتني السعادة وقت السجن، فالنفس البشرية أعظم سجن؛ فإذا تحرر الإنسان من ربقتها عاش في حريةٍ تامةٍ ولن يكون بعدها إنسان مسجونا؛ وما لم يواجه الإنسان تلك التقلبات المؤلمة بالرضا والاطمئنان بدل الكآبة والإذعان لن يستطيع الفوز بالحرية".

 بعد أن يقطع السالك مراتب الاستغناء يصل إلى وادي الحيرة "فيصعق من جمال ذي الجلال" ويكون كمن غاص في المحيط ووجد نفسه فجأة أمام وُسْعه الهائل وعُمْقه السحيق.  فالسالك في هذا الوادي يدرك سعة الوجود اللامتناهية ويكشف هنا جوهر الأسرار المودعة في الظهور الإلهي برؤية صافية وبصيرة نافذة تقوده من سر إلى ألف سر منها"؛ وفي كل لحظة يرى عالما بديعا وخلقا جديدا فيزداد حيرة بعد حيرة ويضيع في رهبة صُنع سلطان الأحدية".

 والوادي الأخير الذي يجهد السالك في الوصول إليه وادي الفقر الحقيقي والفناء المحض وهو "منتهى رتبة العارفين ومنتهى وطن العاشقين".  ويؤكد حضرة بهاء الله على هذا المقام فيتفضل:  "انه مقام الفناء عن النفس في الله والفقر في النفس والغنى بالمقصود، والفقر هو الافتقار إلى الموجودات  في عالم الخلق، والغنى هو الاغتناء بما في عالم الحق، ذلك لان العاشق الصادق والحبيب الوفيّ عندما يَرِد فناء المعشوق تتحد شرارة الجمال المحبوب بحرارة قلبه لتطلق لهيباً يحرق كل سرادق وحجاب وما لديه من قلبه إلى جلده ولا يبقى سوى العاشق". المرجع: كتاب ظهور بهاء الله - أديب طاهر زاده

No comments: